ما بعد الحرب .. أسئلة لم تغرق بعد

ما بعد الحرب .. أسئلة لم تغرق بعد
كتب رياض الفرطوسي
على فترة طويلة ، كنت أسبح لا في بحر الإجابات، بل في محيطٍ من الأسئلة. أسئلة لا تبحث عن الحقيقة بقدر ما تكشف عمق الغموض، كأنها ألغاز كونية تتكرر كلما اشتعلت نار جديدة في الشرق الأوسط. لم تكن البداية من غزة وحدها، رغم أن شظايا حروب كثيرة تركت ندوبها في الذاكرة، بل من امتداد جغرافي وفكري تاه فيه المنطق بين السلاح والسياسة، بين النووي والمقاومة، بين من يملك القوة ومن يملك الحلم.

كنت أدرس، وأكتب، وأراقب وأبحث كيف تتحول الفصول إلى دروس في الفشل والأمل المؤجل. كتبت عن بدايات القرن العشرين، عن الخرائط التي وُلدت من رماد الإمبراطوريات، ثم وصلت إلى الحاضر الذي يطل علينا بوجهٍ متعب من حربٍ لا تعرف النهاية. قيل إن الحرب الأخيرة انتهت قبل فترة وجيزة ، لكنّ الطلقات لم تنتظر يوماً واحداً لتعود في ثوبٍ جديد، بعد أن تعثّرت الوعود، وسقطت الجثامين بين الحسابات السياسية.

ما تراه الشعوب نهاية حرب، تراه الأطراف مجرد فاصلة مؤقتة. فـ”وقف إطلاق النار” ليس معاهدة ولا سلاماً ، بل استراحة قصيرة في سباقٍ طويل. كل طرف يفسّر الهدنة كما يشاء، وكل إعلامٍ يريد أن يُعلن النتيجة قبل أن تبدأ المباراة. الكاميرات تبحث عن عنوانٍ سريع: من انتصر؟ من انهزم؟ بينما الحقيقة الوحيدة أن لا أحد يربح في حربٍ لا تملك معنى للنهاية.

تعلمت أن السياسة تشبه لعبة “الدومينو”: لا تضع القطعة الأخيرة، لأن اللعبة حين تنتهي تفقد جدواها. الأطراف كلها تعرف ذلك، وتترك دوماً باباً مفتوحاً للفوضى، كأن استمرار النزاع هو شرط الوجود. وعندما تطرح فكرة أو تسوية، تنهال الأسئلة: من يضمن؟ من يوقّع؟ كأن الدم وحده هو العملة الوحيدة المقبولة في بورصة الصراع.

الحروب في منطقتنا لا تُخاض بالسلاح فقط، بل بالذاكرة والرمز والهوية. هي رواية طويلة لا تنتهي فصولها، لأنها لا تكتب بالحبر بل بالوجع. كل هدنة تُولد وفي أحشائها الحرب القادمة، وكل حرب تُعلن ولادتها من رحم هدنةٍ سابقة.

ربما ما نحتاجه ليس إجابة بقدر ما نحتاج إلى سؤالٍ مختلف. فالإجابات المعلّبة لا تبني سلاماً، والأسئلة الشجاعة وحدها قادرة على كسر الحلقة. الشرق الأوسط لا يحتاج إلى “نهاية الحرب”، بل إلى “نهاية فكرة الحرب” نفسها، وهذا ما لم نجرؤ بعد على طرحه بجدّية.

ظهرت المقالة ما بعد الحرب .. أسئلة لم تغرق بعد أولاً على وكالة الراصد نيوز24.